شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

5.1.8.9 - الخضوع لحكم القضاء والقدر (قونية)

يعدّ موضوع القضاء والقدر من الموضوعات التي تُقلق فكر الكثير من الباحثين والمفكرين وحتى العامة من المسلمين، فالإيمان بهما واجب؛ ولكن ماذا يعني القضاء وماذا يعني القدر؟

يقول الشيخ محي الدين في الباب الثلاثين وثلاثمائة أن القضاء يحكم على القدر والقدر لا حكم له في القضاء بل حكمه في المقدَّر لا غير، وذلك بحكم القضاء. فالقاضي حاكم والمقدِّر مؤقّت، فالقدر التوقيت في الأشياء، وذلك من الاسم "المُقيت"؛ قال الله تعالى في سورة النساء: ((... وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا [85])).

فيقول الشيخ محي الدين أنه أشهد هذا المنزل بقونية في ليلة لم يمرّ عليه أشدّ منها لنفوذ الحكم وقوّته وسلطانه، فحمد الله على قصوره عليه في تلك الليلة ولم يكن حكمَ تأييد وإنما كان حكم وقوع مقدّر، فلما رُدّ إلى نفسه وقد سقط في يده وعلم ما أنزل الله عليه وما قدّره الحق لديه وفرّق بين قضائه وقدره في الأشياء، كتب بذلك إلى أخٍ له في الله يعرّفه بما جرى وكان ذلك الأخ قد أرسل له للتوّ كتابا قد ورد عليه يطلب منه شرح أحواله، فصادف هذا الكتاب ورودَ هذا الحال على ابن العربي فكتب إليه الشيخ محي الدين يصف له حاله هذا في كتابٍ طويل على شكل شعر ونثر.

فلمّا وصل الكتاب إلى صاحبه، ويبدو أن اسمه كان "شهاب الدين"، سُرَّ بوروده وأمعن النظر فيه وإليه. فيقول الشيخ محي الدين أنه أورثه التفكير فيه علّة كانت السبب في رحلته وسرعة نقلته فما بقي إلا أيّاماً ودرج وعلى أسنى معراجٍ إلى مقصوده عرج. ويضيف الشيخ أنه شهد احتضاره بالدار البيضا إلى أن قضى.[695]

تجدر الإشارة هنا إلى أن "الدار البيضا" المذكورة هنا لا يمكن أن تكون تلك المدينة المغربية المعروفة كما افترض ذلك عثمان يحيى رحمه الله،[696]وذلك لأن الشيخ محي الدين كان قد ترك المغرب منذ زمن وهو هنا يتكلم عن حادثة حصلت معه وهو في قونية.

من الممكن أن "الدار البيضاء" هنا هي مدينة في الأناضول قريبة من قونية وتسمى (Aksehir) وهي تعني بالتركية الدار البيضاء. ولكن من هو هذا الشخص الذي يتكلم عنه ابن العربي ويدعوه "شهاب الدين"!

من المحتمل أن يكون هذا الشخص هو شهاب الدين مدّ الله زيلا وهو أستاذ زين الدين محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي الذي يبدو أنه كان يدرّس الحديث في مدرسة قريبة من قونية والدار البيضاء (Aksehir) وقد ذكره الناسخ في مخطوطة أسعد أفندي 312 لكتاب مشكاة الأنوار،[697]ويبدو أنه من معارف الشيخ محي الدين مع أننا لا نعرف أية معلومات أخرى عنه.[698]

من جهة أخرى من المحتمل أن يكون هذا الشخص هو شهاب الدين السهروردي! رغم أن هذا الافتراض غريب ولكن هناك أدلّة تؤيّده، فالدار البيضاء هنا قد تكون إشارة إلى بغداد نفسها لأنها كما هو معروف بُنيت على موقع مدينة "طيسفون" العاصمة الفارسية القديمة للعراق والتي يعني اسمها بالفارسية "المدينة البيضاء"، وهي الآن لا تزال موجودة جنوبي بغداد وتسمى "المدائن".

ولكن هذا الفرض إن صح فمن شأنه أن يغيّر الكثير من رؤيتنا لسيرة الشيخ الأكبر لأنه يعني أن الشيخ رضي الله عنه كان في قونية في أواخر سنة 631 (حين مات السهروردي) وذهب منها إلى بغداد حيث حضر احتضاره وشيّعه ثم عاد، بينما نحن نعرف أن الشيخ محي الدين قد استقرّ في دمشق منذ سنة 620 كما سنرى في الفصل السادس، ولكن هذا لا يعني أنه لم يغادر دمشق أبداً، حيث هناك دلائل على أنه كان في حلب سنة 623، وكذلك لا نعلم أين كان في سنة 631 تحديداً وخاصة في أواخرها.

على كلّ حال، وإن لم يكن هذا الاحتمال الذي فرضناه ممكنا عملياً، فمن الممكن أيضاً أن يكون الشيخ محي الدين قد ذهب فعلا إلى بغداد ولكن ليس بالطريق الطبيعي المعروف، وإنما بشكل روحاني كما يفعله أصحاب الخطوة، ولقد ذكر الشيخ محي الدين رضي الله عنه أشياءً حصلت معه من هذا القبيل من قبل. وهذا ما يفسّر غموض الشيخ محي الدين في هذا الموضوع وعدم ذكره الاسم الكامل لشهاب الدين. ولكننا لا نعرف أي شخص آخر بهذا الاسم يمكن أن يتجاوب مع الشيخ محي الدين ويفهم هذه القصيدة التي أرسلها له تعبيراً عمّا حصل له في هذه الليلة العصيبة مما أدى به إلى الموت من شدّة التفكير بها.