شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

4.6.11 - وحدة الوجود والخلق في ستة أيام

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ محي الدين ابن العربي له رؤية فريدة لم يتطرّق لها أحدٌ قبله أو بعده من العلماء المسلمين وغيرهم من الفلاسفة والعلماء، وذلك بخصوص خلق العالم في ستة أيّام كما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم وفي التوراة وكما ورد في العديد من الأحاديث النبوّية الشريفة، مثل قوله تعالى في سورة الحديد: [b](([/b]هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [b]... [4]))[/b]وقال أيضاً في سورة ق: [b](([/b]وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ[b] [38]))[/b]. فأغلب العلماء والمفسّرين يؤوّلون ذلك بطرقٍ مختلفةٍ وذلك لعدم إمكانيّة تصوّر استغراق الله تعالى لفترة زمنيّة حتى يتمّ الخلق وكذلك كون الأيام لم تكن معروفة قبل الخلق أصلا، كما يتخيّل الجميع.

والحقيقة أن رؤية ابن العربي تخرج من كلّ هذه التناقضات فتعطي تفسيراً علمياً جميلاً وبديعاً من غير أن يتناقض مع صفات التنزيه الإلهيّة. ولقد أوضحنا هذه الرؤية في بحث الدكتوراه عن مفهوم الزمن عند الشيخ محي الدين وأقوم الآن بإعادة صياغته باللغة العربية وسأعدّه للنشر قريبا بإذن الله تعالى. ولكن لا بأس أن أختصر هذه الرؤية الغريبة والبديعة للخلق هنا كونَ هذا الكتاب يتكلّم عن حياة الشيخ محي الدين ومذهبه، لأنّ هذه الرؤية هي في النهاية أساس الكثير من الأفكار الغامضة التي جاء بها الشيخ محي الدين مثل وحدة الوجود وغيرها، والتي انتقد كثيرا بسببها كما سنرى في الفصل السابع.

فيقول الشيخ محي الدين أن الله تعالى يعيد خلق العالَم بشكل مستمرّ في ستة أيام ثم يستوي على العرش، ولكننا لا نشهد العاَلم أثناء الخلق وإنما فقط نشهده مخلوقا أي نشهد منه حال استواء الله تعالى على العرش وهو يوم السبت، فكل حياتنا هي في الحقيقة يوم سبت وهو الزمن الذي يمرّ علينا، وهو يوم الأبد، أمّا الأيام الستة الأخرى فهي متوالجة في هذا اليوم بحيث تتكرّر في كلّ لحظة حيث أن الله تعالى يخلق بها العالم من حيث المكان الثلاثي الأبعاد أو السداسي الجهات، في كل يوم جهة؛ لأن اليوم في اللغة العربية يحمل معنى الجهة. ولقد قال الله تعالى في سورة الكهف: [b](([/b]مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا[b] [51]))[/b]، وقال أيضاً في سورة ق: [b]((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [15]))[/b]. ففي كلّ لحظة يخلق الله تعالى العالم في ستة أيام ثم يستوي على العرش من غير تراخٍ زماني ولا انتقالٍ مكاني، بل هو سبحانه وتعالى يخلق بذلك المكان والزمان في هذا الأسبوع الأصلي الذي هو في الحقيقة لحظة واحدة من حياتنا؛ فالأيام الستة الأولى من يوم الأحد إلى يوم الجمعة هي لخلق المكان، وفي يوم السبت يظهر العالم فيكون لحظة في الزمان، ومع توالي الخلق تتوالى اللحظات التي هي في الحقيقة أيام وإنما نحن نشهدها لحظات لأننا نعيش في نقطة من العالم، فهي بالنسبة للعالم يوم وبالنسبة لنا لحظة، فالآن مثلاً هناك يوم كامل في كلّ أنحاء العالم؛ صباح في مكان ومساء في مكان وظهر في مكان وعصر في مكان.

وهكذا نجد أنّه ولأوّل مرّة في التاريخ يكون هناك معنى فيزيائياً للأسبوع فهو واحدة الزمكان (أي الزمان والمكان) كما وحّدت بينهما نظرية النسبيّة من غير فهم طبيعتهما وكيفية ارتباطهما. ويفسّر الشيخ محي الدين رضي الله عنه سبب كون الأيام سبعة وأصلها وأصل الزمان والمكان، ولكن ليس هنا موضع الحديث عن ذلك فنتركه إلى الكتاب القادم إن شاء الله تعالى.

ولكن من أهم النتائج الفلسفية، سوى النتائج العلمية التي فصّلناها في الأطروحة، لهذه الرؤية التي اختصرناها اختصاراً شديداً هنا هي أن الخلق يتمّ بشكل متسلسل رغم أننا نراه أمامنا خلقاً جاهزاً ومستمرّا، بل هو في الحقيقة خلق جديد يتجدّد مع الآنات. فالله تعالى يخلق أجزاء العالم بشكل متسلسل ومستمرّ فهو في كلّ آن واحد من الزمن يخلق جزءً واحداً من العالم ونحن لا نشهد ذلك، بل لا نشهد سوى الخلق بعد أن يكتمل. فلو قدّرْنا أنّنا استطعنا أن نوقف الزمن فلن نرى من العالم سوى نقطة واحدة هي الصورة الجوهرية التي يخلقها الله تعالى في كلّ يوم (أي لحظة)، والعالم هو مجموع هذه الصور التي يخلقها الله تعالى ويعيد خلقها مع مرور الزمن. وهكذا نجد أن حقيقة العالم واحدة ومظهره متكثّر والرابط بين الوحدة والكثرة هو الزمن؛ وهذا هو معنى وحدة الوجود وحقيقتها باختصار شديد. ولقد عبّر الله تعالى عن ذلك أوضح تعبير في القرآن الكريم في سورة الرحمن حين قال عزّ وجلّ: [b]((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [29]))[/b]فلو كان شؤونا لكان هناك تعدّد ولكنّه شأن واحد، لأن الله واحد، ولا يصدر عن الواحد إلا واحد، والكثرة المشهودة في الواقع ما هي إلا تكرار الظهور لهذا الجوهر الواحد الذي خلقه الله تعالى وهو في الحقيقة القلم وهو روح نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم الذي يكتب ما يريد الله تعالى أن يخلقه في العالم، ولذلك فإن العالَم هو في الحقيقة كتاب مسطور (سورة الطور آية 2)، حقيقة وليس مجازا.

وإذا صعب علينا فهم ذلك لنأخذ مثال شاشة التلفزيون أو الكومبيوتر، فنحن عندما نشاهد الصور المختلفة عليها نتخيّل أجساما وحركات، وما هي في الحقيقة سوى حزمة إلكترونية واحد ترسم نقطة واحدة في أسفل الشاشة ثم تنتقل فتمسح الشاشة وفي كلّ مكان تظهر بصور مختلفة ذات شدّة إضاءة ولون مختلف فكلّما انتهت من مسح الشاشة عادت وشكّلتها من جديد ولكن بصور مختلفة قليلا، وهكذا نتخيّل وجود الحركة، وكلّ ذلك يتمّ بواسطة شعاع إلكتروني واحد يقوم بمسح الشاشة يميناً وشمالاً وأعلى وأسفل حتى يتمّها ثم يعيد مسحها من جديد. فلو أننا كنّا مخلوقات على هذه الشاشة لقال لنا الخالق أنه يخلق عالمنا في أربعة أيّام ثم يستوي على العرش، ولكننّا كوننا الآن في عالم ثلاثي الأبعاد فيخلقه الله تعالى في ستّة أيّام ثم يستوي على العرش.

لقد اختصرنا هذا العرض المكثّف من كتب الشيخ محي الدين الكثيرة، ولذلك لم نضع هنا أي مرجع لأنّ هذه الآراء لا ترد أبداً في مكان واحد بل منثورة لأنها في الحقيقة هي من عقيدة الخواص كما ذكر الشيخ محي الدين أنّه نثر هذه العقيدة في كتبه حتى لا يساء فهمها. ولكن يريد المراجع والمزيد عن هذه التفاصيل التي ذكرناها فليراجع الأطروحة. وفي الحقيقة فقدّ كرّس الشيخ محي كتبه جميعها لذلك، وكذلك فإنّ حياته نفسها كانت انعكاسا لهذه الرؤية كما ذكرنا في المقدّمة. ومن أجل ذلك اخترنا عنوان شمس المغرب لهذا الكتاب وقسمناه إلى سبعة فصول، كما كان الخلق في سبعة أيام، كل واحد منها يرمز إلى مرحلة من اليوم والخلق.